لبنان يخسر هويته الطبيعية: من جنة الفصول الأربعة إلى جهنم التصحر و"الظواهر المتطرفة"

التحري | | Sunday, November 21, 2021 7:35:23 PM


فتات عياد - التحري

بينما قادة العالم كانوا يتلهون بمصير الكوكب جراء التغير المناخي، كان رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي في قمة غلاسكو، يتلهى بمحادثات جانبية، باحثاً في أزمة الوزير جورج قرداحي، كأن كل أزمات لبنان، بحجم وزير في حكومة! ومع أن لبنان متروك لمصيره على كافة الأصعدة، لكن مصيره المناخي مرتبط بمصير الكوكب، شاءت دول الكوكب أو أبت ذلك!
وحرائق السنوات الأخيرة، في بلد كانت "الأرزة" رمز علمه منذ العام 1918 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، هو الذي سمي ببلاد الأرز، تيمناً بها، وسمي بخزان الشرق الأوسط لوفرة المياه فيه، تنذر بأنه حتى هويته الطبيعية، لن تسلم من نيران جهنم التي يعيشها اللبنانيون، بل أنها تتجه هي الأخرى نحو معالم "جهنم"، بعد أن كان لبنان "جنة" على الأرض!

ويتميز لبنان بأربعة فصول، جملة لطالما كررها تلامذة بلاد الأرز، فيما تغنى شعراؤه بجباله ووديانه وأنهاره وبحره، فهو "أخضر حلو"، وهو "لوحات الله راسما"، لكن سالم الغفيان في أغنية السيدة فيروز، قد لا يجد زهر اللوز في نيسان، إذ ما عادت "تتلج الدني" ولا "تشمس الدني" في مواعيدها التي ينتظرها اللبنانيون، وها هي تمطر في آواخر تشرين الثاني، بعد أن كان طرف أيلول بالشتاء مبلول، ما يعني أن لبنان دخل فعلياً في أزمة التغير المناخي، والخير لقدام!

فأين الدولة اللبنانية من هذا التغير؟ وما الآثار الطبيعية التي قد يشهدها لبنان جراء ما يعرف بـ"الاحترار العالمي"؟ وكيف يؤثر التغير المناخي، على السياحة والزراعة والاقتصاد اللبناني؟

أزمة العصر

وتغير المناخ هو أزمة هذا العصر، والمناخ يتغير بسرعة كبيرة. وتحذر مسودة تقرير وضعتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ من أن "عشرات الملايين من البشر سيعانون من المجاعة والجفاف والأمراض في غضون عقود، في إطار العواقب الكارثية للاحترار المناخي على صحة البشر".
في المقابل، يرى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش أن "حالة الطوارئ المناخية هي سباقٌ نحن نخسره حالياً، ولكنه سباق يمكننا الفوز به“.

ووفق تقرير لـ"المجلس الاطلسي" في آذار 2019، فإنّ منطقة الشرق الأوسط ستكون الأكثر تأثّراً بالتغيرات المناخية، فإرتفاع درجات حرارة أشهر الصيف، سيحوّل مساحات في الشرق الأوسط إلى مناطق غير صالحة للسكن بسبب التصحر، وموجات الحر الطويلة الأمد والجفاف. فيما يتجلى تهديد التغير المناخي بالخوف من طمر مدينة الاسكندرية في مصر بسبب علو منسوب مياه البحر، كأحد أكبر المخاطر المحدقة في المنطقة.

وبالعودة للبنان، وقبل حرائق الغابات الشاسعة فيه، كان ما يعادل 60 % من مساحة لبنان هي أراض معرضة للتصحر، بحيث لا يزيدُ معدل الامطار فيها عن 200 ملم سنوياً، بالإضافة الى أنها خسرت غطاءها النباتي نتيجةَ التدخل السلبي للإنسان والحروب وقطع الاشجار وإنتشار المقالع والمرامل والكسارات التي تحتل حوالي 56 مليون متر مربع من الأراضي، عدا عن سياسة إنشاء السدود.

وقد يتفاجأ كثيرون إن عرفوا أن الالتزام بمعالجة قضية المناخ هو أحد البنود التي أدرجتها الحكومة الرئيس نجيب ميقاتي في بيانها الوزاري، في بلد لا قدرة لسلطته على إيجاد حل للنفايات فيه غير المطامر المسببة لانبعاث غاز الميتان، الذي يتسبب بدوره بارتفاع درجة حرارة الأرض بنسبة أعلى بـ29 مرة من ثاني أوكسيد الكربون، وهي كذلك عاجزة عن معالجة مياه الانهار من التلوث، وتستعين بطائرات قبرصية لإطفاء حرائق أراضيها الخضراء، ويبخل رئيس جمهوريتها ميشال عون على بيئة لبنان، بتوقيع مرسوم تعيين حراس أحراج، كسياسة استباقية لمنع الحرائق فيه!

وبعد أن كانت الغابات تساوي ما يقارب 36% من مساحات لبنان خلال الستينات وصلت إلى أقل من 13% في وقتنا الحاضر. وخسرت عكار وحدها 14% من أراضيها بسبب حرائق العام الماضي.
وكانت حرائق العام 2019 في الجبل مفصلية في تاريخ بلاد الارز، كأعلى معدل حرائق ( 3 آلاف هكتار) أي 3 أضعاف المعدل السنوي وهو 1000 هكتار، فيما الصيف الماضي، التهمت الحرائق 7500 هكتار من الأراضي، ضمن موجة حرّ غير مسبوقة ضربت كذلك سوريا والجزائر وتونس وبلدان مجاورة أخرى، ومنذ أيام كذلك اشتعل الجنوب واشتعلت مساحات خضراء في بيت مري. ..

وإذا كانت الغابات تحمي التربة السطحية والمياه الجوفية، ففقدان غطاء الغابات يؤدي لانجراف التربة والسيول التي تجرف معها التربة السطحية، ما يعيق امتصاص الأمطار في المياه الجوفية.
وتقلص المساحات الخضراء يزيد خطر التصحر، ووفق معهد الموارد المائية العالمية، فإن 1.8 مليار شخص في العالم، أو ربع سكّان الأرض، يتجهون نحو المعاناة من أزمة مياه، وإمكانية حصول نقص حاد في المياه في السنوات القليلة المقبلة. وكشفَ تقريرُ المعهد عام 2019، أنّ 12 بلداً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أصل 17 تقع في دائرة الخطر، فيما حلّ لبنان في المرتبة الثالثة.

دوامة جهنمية

وللوقوف عن كثب عند الحالة اللبنانية، يقول الخبير البيئي حبيب معلوف في حديث لـ"التحري"، بمعزل عن أن الحرائق الأخيرة التي شهدها لبنان بغالبيتها حرائق مفتعلة أي ناجمة عن تدخل بشري بشكل أو بآخر، إما بأهداف سياسية أو تخريبية أو زراعية أو بسبب الإهمال، لكن يضاف إليها عامل زيادة حرارة الأرض، أو ما يعرف بـ"الاحترار العالمي"، الناجم بدوره عن تغير المناخ.

وهذا العامل "خطير جداً"، فهو مؤات لتحويل أي خطأ بشري من الأسباب آنفة الذكر إلى كارثة بيئية صعبة الاحتواء. و"ما شاهدناه من توسع حرائق لبنان دليل على ذلك".
وكلما زادت الحرائق، كلما زاد الاحترار العالمي، يشرح معلوف "فالانبعاثات التي تتصاعد من الحرائق تؤدي بدورها الى زيادة حرارة الأرض"، وهذا "ليس على مستوى لبنان وحسب، بل على مستوى العالم أجمع".

ولحرائق الغابات أذى مزدوج، فالغابات هي "رئة الأرض" و"البالوعة" التي تمتص غاز ثاني أوكسيد الكاربون، وهو أحد أبرز الغازات تسبباً بارتفاع حرارة الأرض، وكلما انخفضت نسبة امتصاصه في الجو بسبب خسارة مساحات خضراء، كلما كانت الخسارة مضاعفة، وهذا الشيء يعني أننا دخلنا في حلقة جهنمية. فالمشكلة تغذي مشكلة أخرى. ما سيفاقم الوضع سوءاً في في السنوات المقبلة.

آثار وخيمة

وعن تأخر موسم الشتاء وهطول الأمطار، يشير إلى أن هذه الظاهرة تسمى "انزياح الفصول"، متوقعاً أن يمتد الصيف الى كانون الأول العام المقبل، وتتجلى الأزمة عاماً بعد عام.

هذا ويشير معلوف إلى أن الاحترار الحراري سينجم عنه في لبنان ما يعرف بـ"المظاهر المناخية المتطرفة"، كأن تسقط كمية أمطار في غضون نصف ساعة، بقدر الكمية التي كانت تسقط طيلة شهر كامل، وهذا الأمر "يؤدي إلى عدم استيعاب الأرض لغزارة الهطولات ويتسبب كذلك بالفيضانات، وبعدها الجفاف بسبب عدم امتصاص التربة للمياه الفائضة".

والجفاف والحرائق وزيادة حرارة الأرض والفيضانات كلها "مظاهر متطرفة تسببها مشاكل بيئية متعلقة بسلوك الانسان". من هنا، فإن معلوف متشائم فيما خص لبنان، إذ برأيه "لم يلتفت المسؤولون لكلام الخبراء البيئيين منذ عقود، ولا هم سيضعون سياسات استباقية ولا حتى لاحقة، وطالما أن التجار يحكمون هذه البلاد، فنحن سنشطب عن الخريطة وما عاد هناك شيء في لبنان قابل للإصلاح".

لبنان ليس وحده على الخريطة!

بدوره، يرى الخبير البيئي بول أبي راشد أن "كوكب الأرض دخل بتغير مناخي والتأثير هو على صعيد الكوكب ككل، والدول الأخرى في هذا الموضوع ليست أفضل حالاً، فالدول التي تؤمن كهرباء لشعبها 24/24 وتولد كهرباءها من الوقود الأحفوري وليس من مصادر الطاقة المتجددة، تتسبب بانبعاثات وتلوث أكثر مما يسببه لبنان، وكما لدينا حرائق، فهناك بلدان أخرى تتعرض لحرائق كارثية، والكوكب كله مشارك في التلوث البيئي والاحترار العالمي وغالبية الدول ليست مجهزة لمواجهة الحرائق الكارثية".

ويضيف "فالإنسانية محضرة لإطفاء الحرائق كأن يأتي عناصر الدفاع المدني ويسيطروا على النار ويمنعوا تمددها، لكن بعد أن أصبحت نسبة الجفاف عالية جدا وارتفعت حرارة الأرض كثيرا وباتت الرياح ترافق المواسم بما فيها الصيف، (بعد أن كنا نتمنى أن تأتي نسمة يأتي هواء لنطيّر طائرة الورق عندما كنا صغارا)، دخلنا في حالة "حرب مناخية"، وهي كما الحرب العسكرية، تقتل وتدمّر ولها نتائج خطيرة وكارثية.

وعن موقع لبنان من الأزمة، يقول "نحن مثل الأطرش بالزفة" فقد دخلنا بالتغير المناخي لكن "لا شيء تغير لناحية رؤية السلطة السياسية وتعاطيها مع العدو الخفي الذي يهاجمنا، فيما لا سياسات استباقية وهناك شبه انعدام جهوزية لمواجهة الأمطار القوية والجفاف والتصحر والحرائق الكارثية لغاباتنا، وباختصار لا جهوزية إطلاقاً للحالة البيئية الخطرة التي تداهمنا.

وصحيح أن اللبنانيين متلهون بأزمتهم الاقتصادية، لكن أبي راشد يرى أن الأزمة المناخية أشد خطورة. ويسأل "بماذا يساعدنا بالمال إن اشتدت الحرب المناخية وتأثرت مياهنا وتأثر القطاع الزراعي؟". مشيراً إلى أنه "قد نتفاجأ بأن هناك أنواعاً زراعية ما عادت تنمو في لبنان، وقد نصطدم بحشرات تؤذي غابات الأرز بعد أن تتغير الحرارة التي تعيش فيها تلك الغابات، ما يجعلنا أمام مغامرة خطيرة بطبيعة بلادنا.

خزان الشرق الأوسط

ويلفت إلى أهمية لبنان كخزان مياه للشرق الأوسط، فيما هذه الحرب المناخية ستؤثر على كمية الثلوج التي تتساقط على مرتفاعتنا سواء كأن تنخفض كمياتها أو تذوب بسرعة، ما سيؤثر على مياه الأنهار التي تغذي محيطنا وصولا لبحيرة طبريا في فلسطين، ونهر الأردن، ومروراً بسوريا التي تعتاش فيها مدن عديدة من نهر العاصي شمال لبنان، الذي ينبع بدوره من جبل المكمل.

وهنا، يلفت أبي راشد إلى أن "القرنة السوداء لدى البعض لا تغدو كونها مشهد طبيعي جميل بردائها الأبيض في الشتاء، لكن أنهارنا تمد لبنان ومحيطه بالمياه، وهو من المقومات الاساسية للزراعة والاقتصاد والحياة.

"وسنبكي غداً"، إن أكملنا كما نحن اليوم بقطع الشجر لأجل التدفئة أو بإنشاء السدود لمصالح سياسية، فالآتي أعظم، ولن تكون لنا قدرة على السيطرة على غضب الطبيعة. ولا يمكننا توقع تواريخ تغير الفصول وانتهاء موسم الحرائق أو بدء موسم الأمطار الذي يتأخر عاماً بعد عام، لكن الأكيد هو أن " الطبيعة رح تجن" فنحن "أذيناها بتراكم ثاني اوكسيد الكربون والابعاثات الأخرى".

في الإطار يسأل "هل هناك قرار سياسي لمواجهة التغير المناخي؟ كحالة طوارئ لمنع قص الشجر وضبط الفلتان الحاصل؟"، مستنتجاً أننا في لبنان نعيش "في حمام مقطوعة ميته". إذ "لا هيبة ولا ذكاء لا حضور ولا وعي لدى المسؤولين إلى أين نحن ذاهبون وميقاتي عاد من غلاسكو بعد أن وعد بدعم الطاقة المتجددة، لكن على الأرض، لا ترجمة للأقوال بالأفعال".

ولبنان بلد صغير ولا إمكانيات كبيرة لديه لكن "لديه مسؤولية الحفاظ أقله على المساحات الخضراء التي تمتص انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة بارتفاع حرارة الأرض.

لبنان آخر؟

ونسأل أبي راشد عما إذا كنا أمام "لبنان آخر" ليجيب أنه "ليس مناخ لبنان وحده الذي يتغير بل مناخ الكوكب ككل ولبنان بلد صغير جداً، لكن إذا لم تغير السلطة سلوكها ولم نشارك في الحلول مع باقي الدول لمواجهة التغير المناخي، فلبنان أيضا لديه ساحل كما الاسكندرية، وهو سيتأثر بارتفاع حرارة الارض.
وكذلك ستتأثر السياحة البيئية، والقطاع الزراعي، والثروة الحرجية، ومواسم التزلج التي كانت تجذب الدول العربية، فيما هناك قرى لبنانية تعتاش على موسم التزلج، كالارز بشري فاريا وكفرذبيان. أي أن الاقتصاد اللبناني لن يكون بمنأى هو الآخر، عن تأثير المناخ على لبنان! من هنا، فإن أولوية الأولويات برأي أبي راشد هي "مواجهة الحرب المناخية" التي تؤدي بدورها للمجاعة والجوع.

وفي فيلمه، Mother، يحاكي كاتب ومخرج الفيلم دارين أرنوفسكي، بعين درامية وبعد فلسفي، قصة الأم وهي الأرض، مع سكانها الذين عاثوا فيها الخراب، وهي إذ تنتقم لنفسها منهم بعد أن أعطت فلم يشبعوا من عطائها، تحرق نفسها بمن عليها، كأن تنظف نفسها بنفسها، ثم تقوم بنفض منزلها من جديد.
والفيلم وهو من نوع "الرعب النفسي"، لا يمثل رعبه شيئاً، أمام ما ينتظر البشرية، مما صنعت أيديها، ومع هذا، يمكن تأخير "القصاص" وتفادي كل هذه "الحرائق"، لو أن سياسات البلدان تتجه أكثر لتكون صديقة للبيئة!

بحث

الأكثر قراءة