عن خصوصية صراع الأجيال: قراءة في رواية "الآباء والبنون" نموذج الأدب الروسي في القرن التاسع عشر

رصد | | Saturday, September 18, 2021 3:44:52 PM


محمد الخنسا - التحري

في روايته الآباء والبنون، يوظف ايفان تورغينيف في نحت وتطوير شخصية بطلها "بازاروف" اسلوب السرد الذي عودتنا عليه الرواية الروسية في القرن التاسع عشر.
اسلوب السرد نفسه الذي تجلى ايما تجل في روايات دوستيفسكي والتي كانت ذروته "الجريمة والعقاب" وبطلها الطالب راسكولنيكوف، وفي رواية دوستيفسكي الاصغر والاكثر كثافة "مذكرات قبو"، والأكثر توسعاً "الشياطين"، الاسلوب الذي تجلى كذلك في "بطل هذا الزمان" لليرمانتوف.

يبدأ هذا الاسلوب بعملية بناء الشخصية، ويتم ذلك عبر تحديد محركاتها "الواعية" الأولى، اي الإفصاح عن تلك المبادىء الأولية التي "تدعي" الشخصية انها المحدد الحقيقي لكل أفعالها، إنها عملية الافصاح عن فكر الشخصية أو بالأحرى وأكثر دقة "نسقها الفكري" المنظم، وذلك عبر تسطير مسلماته النظرية، فليس الفكر المفصح عنه قضايا مفككة لا رابط بينها، بل قالب نظري ذو اساس تعتمد عليه قضايا أخرى، يعمد الكاتب إلى انطاق الشخصية مرارا في بدايات أحداث الرواية عبر جدالاته مع شخصيات أخرى، للكشف عن بعض النتائج النظرية التي يؤدي إليها هذا الأساس. عملية البناء هي عملية الاستغراق في "فكر الشخصية" قبل إغراق الكاتب لها في الواقع المادي.

ثم يلي ذلك عملية تطوير الشخصية مع سير الرواية، والتي تتم عبر تأزيمها أي تأزيم الفكر، ان رمي الأديب الروسي الشخصية بفكرها ومثلها في قذارة الواقع هو إماطة الروائي اللثام عن عجز القوالب النظرية الأنيقة عن استيعاب الخارج المتحرك المبعثر والتعامل معه. انها تبيان المفارقة ما بين النتائج النظرية للنسق وتلك التي تحصلت في الواقع، انها اجبار الشخصية على اختيار الأفعال المغايرة للتي كان لا بد أن تفعلها بحكم النتائج النظرية، أنها شطط الشخصية عن النموذج النظري الذي بنته لنفسها في دخيلتها وعجزها عن الترقي إليه.

من نيتشاوية "راسكولنيكوف" في الجريمة والعقاب الى "نهلستية" "بازاروف" في الآباء والبنون، شخصيات من ليبراليين ومحافظين، عدميين ومتدينين، تأثرت أفكارهم بمواقعهم الاجتماعية وتجاربهم الشخصية وانطباعاتهم النفسية، ملؤوا صفحات أدب انتلجنسيا روسيا القرن التاسع عشر، تحمل هذه الشخصيات أنساق نظرية شاعت حينها يعجز أصحابها عن خوض الواقع الى منتهاه دون وذرها، فان وذر اي من نتائجها هو وذرها كلها بحكم الترابط المنطقي الضروري للنسق الفكري.

"صراع الأجيال" ظاهرة لها خصوصيتها في كل عصر ومكان، ومسرح الآباء والبنون الذي عولجت فيه الظاهرة هو روسيا القرن التاسع عشر، روسيا التي نشأت فيها طبقة مثقفة مهنية جديدة ذات أفكار عصرية حديثة نسبة الى ذلك العصر، والتي كانت هذه الطبقة بأفكارها النتاج الطبيعي لعملية التحديث العسكري والضرائبي والتقني القيصري المفروضة من أعلى، حماية للقيصرية نفسها من تدخل الخارج وانفكاك الداخل، ولكن تعيد عملية التحديث هذه تشكيل الداخل رغما عنها ببناها التحتية فالفوقية لاحقا . هؤلاء المهنيون المثقفون العصريون هم ابناء الأسر من طبقة أرستقراطية محافظة ذات نزعة سلافية، اننا نتحدث هنا إذن عن صراع اجيال هو صراع طبقات وافكار. صراع الابن الذي أنتجته المدينة الروسية التي لامسها التحديث أولا، والاب المنتمي بروحه وموقعه الى الريف، والذي سيلمسه التحديث لاحقا، بالذات مع تحرير الرق، دع عنك احتكاكه بابنه المدني.

الرواية الروسية الشائعة في القرن التاسع عشر هي الرواية "الفلسفية-الاجتماعية"، ابطالها شخصيات مفاهيمية، ولكل مفهوم مصاديقه، فلهذه الشخصيات مصاديق حقيقية في الواقع الروسي. بل هي موجودة بالضرورة بوجوده. استند تورجينيف في نحت شخصية بازاروف إلى شخصية فعلية لطبيب من الاقاليم اثار دهشته وإعجابه.


"بازاروف"، "النهلستي"، محركه الأول رفض الانحناء لأي سلطة كانت، نقد حاد لكل ما لا تفسير علمي له وهدم لما لا يرضي اناه المباشرة، ذو منطق جاف ينأى بنفسه عن الفنون والآداب والرومانسية، ويمضي وقته مطالعا لكل ما هو جديد على صعيد الاكتشافات العلمية في ذلك الوقت. مع ضرورة الالتفات أن البرادايمات العلمية حينها كانت قائمة على التفسيرات المادية البحتة للظواهر، جاعلا ذلك من المادية فلسفة رائجة وأداة لمقاربة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والأخلاقية، ولا يقرأ "بازاروف" خارج هذا السياق.

لكل شخصية من شخصيات الرواية محركها الفكري، وأزمة محركها الفكري عند رميها في الواقع، من اركادي زميل بازراوف الجامعي والمتأثر بتعاليمه، واب اركادي وعمه الارستقراطيين المتمسكين بنزعتهما السلافية التقليدية، أب وأم بازاروف الفلاحين الفقراء، اودينتسوفا المتحررة المنعزلة التي يغرم بها بازاروف لاحقا، ولكن وظيفة هؤلاء الاساس في الرواية كونهم جزء من الواقع الذي يجد فيه بازاروف نفسه.

هنا منطق الرواية الروسية، تحديد قالب نظري أساس -النهلستية مثلا- عبر الشخصية البطلة ووظيفة القوالب الاخرى انها جزء من الواقع الذي يصطدم به القالب الأساس، يتم ذلك عبر تأزيم الشخصية البطلة نفسها وهي تخوض حياتها في علاقتها مع واقع يتضمن شخصيات أخرى لها انساقها الفكرية الخاصة. يمكن النظر الى رواية الآباء والبنون اذن انها نقد للفكر "النهلستي" الذي انتشر في القرن التاسع عشر، أي فكر رفض الانحناء لكل سلطة كانت ، وتبيان تناقضات هذا الفكر في سياق صراع الاجيال.
في بداية الرواية تتبين نجاعة هذه النهلستية في جدالات بازاروف الحامية مع عم واب اركادي المتعصبين لسلافيتهما وافكارهما المحافظة، واذا بها تتأزم اي تأزم عندما يقع بازاروف في حب اودينتسوفا المتحررة، ويتبين بعد ذلك شيء من عجزها عن كونها محرك بازاروف في علاقته مع اهله. ويحملها ويسقطها بازاروف مترددا عند احتضاره.
هنا اسلوب الرواية الروسية، تبيان نجاعة القالب الذهني في التفسير والتعامل مع جزء من الواقع، يظن حامل القالب انها نجاعة في التفسير والتعامل معه كله، واذا بالقالب يتأزم عندما ينطلق الواقع ويعرض عليه جزء جديد يعجز عن استيعابه.

لهذا الاسلوب الروائي في النقد الفلسفي تفوقه على النصوص الفلسفية النقدية الجافة، في كونه يولد صورا ذهنية محددة لطبيعة الازمة من امثلة يومية مباشرة، وربما يتأخر عن النصوص الجافة في كونه يستنتج خلاصات نظرية اقل رغم كثرة تشكلاتها اليومية

من مهام العمل الروائي العربي هو استناطق الفكر اليومي المتنوع للجيل الجديد العربي الذي خاض الانتفاضات، او اخذ موقف الحياد عنها او خاصمها في هذه الالفية، ولكل فكر يومي أنساق مبطنة يمكن استنباطها عبر استخراج العناصر المؤلفة له. ولهذه الانساق ازماتها كأي نسق عند ارتطامها بالواقع. لعل اسلوب تورجينيف وغيره من الادباء الروس ذو فعالية في تحديد أزمات هذا الفكر العربي الناشىء، وطبيعة تطوره، والامكانات التي من الممكن أن تخرج من تناقضاته ذاتيا أو مع الواقع.

بحث

الأكثر قراءة