قتله حب الوطن: أرديم نانيجيان ضحيّة جديدة لانفجار المرفأ

التحري | | Tuesday, March 9, 2021 4:51:40 PM
التحري

خاص _موقع التحري.

كتب شربل سعادة

لم تعد بيروت تُحصي شظاياها في أجساد أبنائها، بعد أن تناثرت أحلامهم بين انفجار المرفأ وإهمال الدولة لهم. كثيرة كانت عواقب "بيروتشيما"... البعض مات فور الحادثة والبعض الآخر امتص هول الضربة نفسياً وخاض رحلة التفتت لأشهر طويلة، ينازع بين البقاء وانعدام الأمل، في وطن التجاذبات والتحاصصات والتوافقات على تشويه ما تبقى.

فبظرف سبعة أشهر، إنضمّ الناجي "أرديم نانيجيان" ابن الـ57 عاماً إلى لائحة من قتلهم حب الوطن بعد أن نقش انفجار مرفأ بيروت في قلبه فجوة، كانت أكبر من أن يتحمّلها.

"كان كتلة من العطاء والحياة والنشاط، حاله كحال الكثيرين من اللّبنانيّين، يحاول شق حياته في البلد الذي يحب، إلى أن أقلق الانفجار روحه وشطرها نصفين" بهذه الكلمات يبدأ ابن عمه رافي نانيجيان الحديث عنه لـ"التحري" فما يربط بينهما كان "أكثر من رابط الدم، بل صداقة عظيمة وذكريات لا تُحصى" ويتابع "شبّ أرديم في أزقة بيروت، وأحبها، وبعد تخرّجه من الجامعة في لبنان، سافر إلى الخارج لإكمال دراساته العليا والاستقرار إلا أن حبّه للوطن منعه من ذلك وعاد به إلى لبنان مجدّدًا. بعدها، طرق الحب بابه وتزوّج وأسّس عائلةً كانت ثمرتها ابنته العشرينيّة. وبما أن لبنان، هو وطن البطالة أولاً، لم يجد أرديم فرصة عمل في مجال تخصصه في هندسة الكهرباء، كما حاول العمل في مجالات عدّة لكنّ الأوضاع لم تكن لصالحه إلى أن قرر العيش في إحدى شقق بناية العائلة في الجمّيزة، حيث فتح متجراً بيطرياً لبيع لوازم الحيوانات التي كان شغوفاً بها".

يكمل نانيجيان الشّرح "كان أرديم خدومًا ومندفعًا ومنخرطًا في العمل السّياسي ضمن صفوف حزب الرّمغافار كما كان ممثّله في الأمانة العامّة لـ 14 آذار... حياة لبنانيّة تقليديّة في كفاحها، كان يعيشها أرديم، إلى أن أتى انفجار الرّابع من آب وبعثرها مع جنى عمره أمام ناظريه." ويتابع "بعد الإنفجار، رأيته مضرجاً بدمائه، مُحطم الرزق فاقداً محلّه ومنزله. لم يتقبّل ما حلّ به... يصحو يومياً على إنكار ولم تكن هذه سوى بداية المشكلة. مثله كمثل "أبنية مار مخائيل" يقف "على العضم" ويأبى الاعتراف أنه قد تآكل. حاولنا دعمه معنويًّا إلا أن وجعه كان أقوى منّا جميعاً، وأعنف عليه من كلماتنا "المطبطبة" إذ كان يردّد دائمًا "ليش رجعت؟ كنت مبسوط ببلجيكا، ليش رجعت؟!"

لم يخسر أرديم متجره ومنزله فحسب، بل فقد العديد من رفاقه وجيرانه وأعز من يحيط به. وتوالت الصفعات بعد ذلك، إذ لم تأبه السلطات اللبنانية لأمر أحد من الناجين وحتى لم يُقدم أي مسؤول الاعتذار للمواطنين المنكوبين. وبين الدمار ومحاولة النّضال والنّهوض مجدّدًا وقع أرديم ضحيّة تدهور صحّته النّفسيّة. وبعد الصّدمة لم يتمكّن أرديم من النّوم ولا من الأكل بل فقد نوعاً ما حواسه وقدرته على التحكم بجسده إذ لم يستطع المشي بعد مرور فترة خيبة، ليفقد فيما بعد قدرته على الوقوف أيضاً. ومن ثمّ تمّ نقله إلى المشفى وقضى شهيداً جديداً لانفجار المرفأ في سرير العناية الفائقة في السّادس من آذار 2021 بعد 7 أشهر من ذاك النّهار المشؤوم.

"حالة أرديم هي مثال على العواقب الطّويلة الأمد لانفجار بيروت على اللّبنانيّين" هكذا نعته ساناحين كاسابيان على فيسبوك مضيفةً، "لا يزال الآلاف من النّاس يعانون من عواقب هذه التّجربة المؤلمة. الصّدمات النّفسيّة والعاطفيّة يمكن أن تقتل النّاس أيضًا".

وفي حديث هاتفيّ مع المعالجة النّفسيّة منى اسطفان تشرح لـ"التحري" كيف "يعيش اللّبناني وسط أزمات متعدّدة، صحيّة، اقتصادية، اجتماعية، إضافةً إلى أزمة وجود ليأتي انفجار الرّابع من آب كالقشّة الّتي قصمت ظهر البعير، ويوقظ كلّ ما يخالجنا من آثار نفسيّة كامنة فينا". أمّا عن المسارات النّفسيّة المحتملة فتشرح اسطفان "المسار الأوّل قد يكون الكآبة وهو يأتي نتيجة عدّة تراكمات نفسيّة من الأزمات العدّة التي يمر بها الشخص سابقًا فتأتي تداعيات المرفأ من خسارة ماديّة وخسارة أحد الأقرباء أو المعارف والضّرر الجسدي لتؤجّج كلّ الجروح النّفسيّة المتراكمة، إضافةً إلى خسارة الأماكن العزيزة على قلب الأشخاص. المسار الثّاني، ولا يمكن تمييزه إلّا بعد ستّة أشهر وأكثر من الحدث وهو اضطراب ما بعد الصّدمة، قد يستصعب الشّخص الذّهاب إلى العمل أو يعزل نفسه، وهو أحد الآثار النّفسيّة الطّويلة الأمد بعد الصّدمة. المسار الثّالث، وشهدنا مظاهره بكثافة، وهو اندفاع الأشخاص للمساعدة على الأرض في أعمال التّطوع وإعادة التّرميم، فالشّعور النّاتج عن العطاء يساهم في عمليّة الشّفاء من الصّدمة."

تضيف اسطفان "بعد أحداث ضخمة كانفجار المرفأ لا بد من المتابعة النّفسيّة، بل هي أهم من أي متابعة أخرى، وعليه أشدد أنه من الضّروري إنشاء برنامج وطني لمتابعة الصّحة النّفسيّة بعد الانفجار إضافةّ إلى خلق "خليّة للحالات المتأزمة" تهدف للتدخّل ومساعدة المتضرّرين من كلّ الفئات العمريّة وفق طريقة علميّة ومنهجيّة من قبل اختصاصين ومعالجين نفسيّين بالتّعاون مع الجمعيات الأهلية والمنظّمات غير الحكوميّة". ختامًا تؤكّد اسطفان "أنّ العامل النّفسي هو الشّراع الّذي يقود الإنسان، لذلك يستسلم بعض الأشخاص أمام هول الصّدمة ويظهر سلوك الامتناع عن الأكل أو عن المشي أو عن الكلام".

بحث

الأكثر قراءة